
أصدرت أسقفية الشباب عدة نبذات بقلم الأنبا موسى، أسقف الشباب، بمناسبة صوم العذراء مريم، تدور حول العذراء، ومنها «التسليم فى حياة العذراء»، و«التأمل فى حياة العذراء»، و«حوار مع مريم»، و«أم الفضائل»، وكذلك حول فضيلة التسليم فى حياة العذراء.
وقال أسقف الشباب إن من أهم الفضائل فى حياة السيدة العذراء، فضيلة التسليم، يتضح ذلك من قولها للملاك: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِى كَقَوْلِكَ» «لو ٣٨:١».
وذكر الأنبا موسى أن البعض يتصور أن التسليم والإستسلام شيء واحد، وذلك خطأ، فالإستسلام أمر سلبى، إذ يعنى أن يستسلم الشخص لواقع يرفضه وغير راض عنه، وليس فى إمكانه تغييره، بل وأحيانًا يعاتب الله، قائلًا: «لماذا يارب؟».
أما التسليم ففضيلة إيجابية، لأن الشخص يسلم مشيئته لله بإرادته، مثلما يُقال فى القداس الإلهى: «أقدم لك يا سيدى.. واكتب أعمالى تبعًا لأقوالك» «القداس الغريغورى»، وهنا الإنسان يسلم مشيئته لله باختياره المطلق وحريته الكاملة، لتتوافق مع مشيئة الله، مهما كانت، لأنها صالحة وكاملة، وهى الأنسب والأنفع لحياته، وذلك لسبب بسيط هو أن الله كلى القدرة «قدرته لا نهائية» وكلى الحكمة «حكمته لا نهائية» وكلى المحبة «محبته لا نهائية»، لذلك فحين أسلمه مشيئتى أثق أنه يعرف ما هو الأصلح لى، ويقدر أن ينفذه فعلًا، وذلك محبة منه ومنفعة لحياتى.
وتتضح «فضيلة التسليم» فى حياة السيدة العذراء فى مواقف كثيرة منها:
١- فى موقف البشارة:
«كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟» «لو٣٤:١»
سؤال منطقى، ولا يتعارض مع الإيمان، فهى لم تشك فى قدرة الله، ولكنها تسأل بخصوص بتوليتها التى نذرتها، وتتمسك بها، كيف تتم الولادة بدون زواج؟ وكان رد الملاك: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ، يُدْعَى ابْنَ اللهِ» «لو ٣٥:١». أى أن هذا الميلاد سيكون معجزًا، وفائقًا للطبيعة، بل حتى المولود نفسه، فابن الله يكون مجرد إنسان، بل هو «القدوس ابن الله». وأعطاها دليلًا آخر على قدرة الله الفائقة، حين أبلغها أن أليصابات الآن حبلى فى الشهر السادس، مع أنها كانت عاقرًا.
فقالت مريم: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِى كَقَوْلِكَ» «لو ٣٨:١»
ومع أنه قال لها إنها ستكون «أم الرب»، إلا أنها فى اتضاعها أضافت حرف «التاء المربوطة» لتصير الكلمة «أمة الرب» أى عبدة للرب.
٢- فى علاقتها مع يوسف:
لم تفكر العذراء ماذا تقول ليوسف، بل فى تسليم تركت الأمر فى يد الرب. الله سيتعامل معه حينما يرى الحمل، وهذا ما فعله الرب فعلًا، من خلال الملاك الذى قال ليوسف: «لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِى حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» «مت ٢٠:١، ٢١»، وأرجعه إلى نبوءة إشعياء: “هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» «إش ١٤:٧»، «هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» الَّذِى تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا” «مت ١:٢٣»
٣- مع سمعان الشيخ:
ولما حمله سمعان الشيخ على ذراعيه، قال لمريم أمه: «إِنَّ هذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِى إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ. وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِى نَفْسِكِ سَيْفٌ» «لو ٣٤:٢، ٣٥»
فلما سمعت مريم كلامه وكلام غيره: «كانت تحفظ جميع هذه الأمور فى قلبها» «لو ٥١:٢».. فى تسليم كامل لمشيئة الله.
٤- عند الصليب:
عند الصليب قالت السيدة العذراء لرب المجد: «أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص، أما أحشائى فتلتهب عند نظرى إلى صلبوتك، الذى أنت صابر عليه من أجل الكل، يا ابنى وإلهى».
وعاشت العذراء فى تسليم كامل، واثقة فى رعاية ابنها وإلهها، الذى اهتم بها حتى آخر لحظة، وسلمها ليوحنا عند الصليب، قائلًا ليوحنا: «هُوَذَا أُمُّكَ» «يو ٢٧:١٩»
حقًا كانت أم النور نموذجًا لحياة التسليم، وجاء بعدها القديس بولس الرسول ليقول: «سَلَّمْنَا، فَصِرْنَا نُحْمَلُ» «أع١٥:٢٧» أى أن الإنسان الذى يسلم مشيئته برضا لله، يحمله الله على ذراعيه، ويقوده فى مواكب النصرة والفرح، فهو الراعى الصالح، والقائد المضمون: «ليتنا نسلم مشيئتنا لله، حتى يقودنا فى موكب نصرته كل حين» «٢كو ١٤:٢».