من التجارية إلى الرقمية.. حروب ترامب تمتد من الصين إلى أوروبا
22.04.2025 07:27
اهم اخبار العالم World News
الدستور
من التجارية إلى الرقمية.. حروب ترامب تمتد من الصين إلى أوروبا
Font Size
الدستور

عاد التوتر بين واشنطن وأوروبا برجوع دونالد ترامب مجددا إلى البيت الأبيض، لا في ساحات السياسة والأمن فقط، بل في الفضاء الرقمي، الذي صار الآن مجالا مفتوحا لمعركة متعددة الأبعاد: اقتصادية، معلوماتية، وسيادية.

لم تكن العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا يوما خالية من الشد والجذب، لكن الجديد في هذه المرحلة أن رقعة الخلاف لم تعد تقف عند حدود التجارة أو الدفاع، بل تجاوزت ذلك إلى من يملك مفاتيح العالم الرقمي؟ ومن يرسم قواعده؟

مع ظهور ما يعرف بـ"البيج تك -  Big Tech"، وتعاظم نفوذ شركات مثل جوجل وأمازون وأبل وميتا، لم يعد الحديث عن سوق رقمية حرة مقنعا لكثير من العواصم الأوروبية التي ترى في هذه الشركات ليس مجرد كيانات اقتصادية ضخمة، بل أدوات هيمنة ناعمة تهدد ما تبقى من السيادة الأوروبية، وتقوض مبادئ الحوكمة الديمقراطية في المجال المعلوماتي.

في خلفية المشهد، تتبدى ملامح تحالف غير معلن بين الإدارة الأمريكية الجديدة  بقيادة ترامب وهذه الشركات العملاقة، في مواجهة "أوروبا المتمردة"، التي قررت أن ترسم حدودها الرقمية بنفسها، عبر حزمة من التشريعات التنظيمية المستحدثة.

أوروبا لم تعد تكتفى بدور السوق الاستهلاكية، ولا تقبل بأن تظل رهينة للمنصات الرقمية القادمة من وادى السيليكون. قانون الأسواق الرقمية (DMA) وقانون الخدمات الرقمية (DSA) شكلا نقطة تحول في العلاقة مع الشركات الأمريكية، عبر محاولة تقليم أظافرها، وفرض قواعد شفافة للمنافسة، تمنع الاحتكار، وتضمن احترام الخصوصية.

في المقابل، بدا واضحا أن واشنطن لا تنظر إلى هذه التشريعات باعتبارها شأنا أوروبيا داخليا، بل كتهديد مباشر لامتدادها الاقتصادي والمعلوماتي، وهى ترى – كما جاء في أكثر من تصريح لمسؤولين أمريكيين – أن أوروبا تمارس "تمييزا تنظيميا" ضد الشركات الأمريكية، بينما تغض الطرف عن نظيراتها المحلية.

الصراع لم يعد فقط على شروط المنافسة، بل امتد إلى مفاهيم حرية التعبير، التي باتت مجالا لصدام ثقافي وسياسى بين الجانبين. شركات التكنولوجيا الأمريكية تدافع عن بيئة رقمية بلا قيود، بينما ترى أوروبا أن الحرية لا تعنى الفوضى، وأن منصات التواصل الاجتماعي تحولت إلى ساحات لنشر خطاب الكراهية والمعلومات المضللة، وهو ما يهدد السلم الاجتماعي والديمقراطية الأوروبية.

أوروبا تجنح إلى التنظيم والرقابة وتشديد الإجراءات، والولايات المتحدة تريدها "سداح مداح". وفى المنتصف، تتأرجح مفاهيم مثل الشفافية، وحرية النشر، والأمن الرقمي، في معركة لا تحتمل الحلول الوسط.

أوروبا باتت تعاني من تبعية رقمية شبه كاملة للبنية التحتية الأمريكية. من الحوسبة السحابية إلى الذكاء الاصطناعي، تعتمد مؤسسات أوروبية حساسة على خدمات شركات أمريكية. وهو أمر يثير القلق، ليس فقط على مسقبل الأمن السيبراني، بل أيضا على استقلال القرار السياسي.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عبر عن هذه المخاوف ودعا إلى سياسة "الأفضلية الأوروبية" في المجال الرقمي، وطالب بدعم الشركات المحلية وتعزيز الابتكار، حتى لا تظل أوروبا مجرد "مستهلك" للتكنولوجيا الأمريكية أو الصينية، دون أن تمتلك أدوات إنتاجها.

رؤية ماكرون تصطدم بواقع معقد تواجه فيه الشركات الأوروبية منافسة شرسة من نظيراتها الأمريكية، في ظل فجوة هائلة في التمويل والابتكار، كما أن بعض القوى السياسية داخل أوروبا تعارض أي توجه حمائي، خوفا من الإضرار بمناخ الاستثمار وحرية السوق.

الرئيس الأمريكي من جانبه يرى في التنظيمات الأوروبية خطرا على "عظمة أمريكا" المنشودة، ويعتبرها محاولة لتقويض تفوق شركات بلاده. 

ما يشير لاقتراب الصدام بين واشنطن وبروكسل، أن ترامب عيَّن بريندان كار، المعروف بمعارضته للتوجهات التشريعية الأوروبية، رئيسا للجنة الاتصالات الفيدرالية. الرجل لم يستغرق وقتا طويلا بعد تعيينه وسارع بإطلاق تصريحات نارية ضد الأوروبيين، واتهمهم بممارسة "الرقابة المؤسسية" على الأفكار!

نائب الرئيس الأمريكي، جى دى فانس، هاجم هو الآخر، الأوروبيين في عقر دارهم، واتهم أوروبا خلال مؤتمر ميونخ للأمن، بإقامة "جدار تنظيمي" يهدف إلى تكميم الأفواه، وليس فقط ضبط الفضاء الرقمي.

تهديدات ترامب لم تتوقف عند الخطاب السياسي. هناك مؤشرات على نية واشنطن خوض "حرب رقمية" ضد أوروبا، وصلت إلى حد التلويح بفرض تعريفات جمركية على المنتجات المعرفية والتكنولوجية الأوروبية، ردا على ما تعتبره "تمييزا تنظيميا" بالطريقة التي قرر بها ترامب شن حرب تجارية على الصين بفرض تعريفات جمركية على منتجاتها التجارية، وهو ما دفع بروكسل لبحث إجراءات مضادة ضد شركات أمريكية تتهرب من الضرائب، وعلى رأسها "أبل" و"أمازون".

كافة المؤشرات تشي بأن المواجهة الكبرى المقبلة بين الأمريكيين والأوروبيين ستكون في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي بات ساحة صراع شرس بين الجانبين. ترامب أعلن عن استثمارات ضخمة لتسريع هيمنة بلاده في هذا المجال، بينما تحاول أوروبا اللحاق بالركب عبر تمويل محدود ومشروعات طموحة، مثل بناء حواسيب فائقة قادرة على تطوير نماذج محلية، لكن الفجوة لا تزال واسعة، والتحدي أمامهم أكبر من مجرد أموال. إنها حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع والقدرة على الابتكار التكنولوجي إلى آخر أدوات الهيمنة التي احتكرت واشنطن بنيتها التحتية في السنوات الأخيرة، وكأنها كانت تقرأ المستقبل.

في إطار موازٍ، تشتعل معركة بين الجانبين لا تقل أهمية عن حرب الذكاء الاصطناعي، تتمثل في تشفير البيانات وحماية الخصوصية. بريطانيا، بدعم أوروبي، حاولت فتح "أبواب خلفية" في نظم المعلومات لشركات التكنولوجيا العالمية بدعوى حماية الأمن القومي، ما أثار غضب "أبل" ودفعها إلى معركة قانونية لحماية خصوصية المستخدمين. ترامب اعتبر الإجراءات البريطانية توجها سلطويا، وشبهها بـ "سياسات الصين".

في فرنسا، رفض البرلمان مقترحات مماثلة، لكن أجهزة الأمن الأوروبية ما تزال تضغط لفرض قيود على التشفير، حتى تستطيع أجهزة الأمن مواجهة الشبكات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية التي تستخدم تطبيقات مثل واتساب وسيجنال. 

المعضلة أمام صناع القرار في أوروبا تتمثل في كيفية التوازن بين الأمن والحرية؟ بين خصوصية الأفراد ومتطلبات الدولة لحماية أمنها القومي؟

الخلاصة أن المواجهة لم تعد مسألة تنظيم أو ضرائب، بل تحولت إلى صراع وجودي حول من يملك القرار في الفضاء الرقمي، ومن يضع قواعد اللعبة، ومن يرسم حدود الحرية ويقرر مقتضيات الأمن.

أوروبا أمام لحظة اختبار حقيقية، إما الانتصار لاستقلالها السياسي والدفاع عن أمنها القومي ضد التدخلات الخارجية، حتى لو أهدرت قيمها الديمقراطية التي لطالما تشدقت بها وتدخلت بسببها في شؤون دول العالم، أو أن تخضع لضغوط وادي السيليكون والبيت الأبيض.

المعركة لم تحسم بعد، لكنها تحدد الآن شكل العالم الرقمي في العقود المقبلة. وأوروبا – بما تملكه من تقاليد قانونية وثقافية – تحاول جاهدة صياغة نموذج ثالث، لا هو أمريكي مطلق، ولا هو سلطوي صيني.

النهاية مفتوحة.. لكن المواجهة الرقمية تقترب

Leave Comment
Comments
Comments not found for this news.