
مع أضخم تجمع ديني مسيحي عالمي – حدث على أرض مصر الطيبة –احتفل الرئيس جمال عبدالناصر والأمبراطور هيلاسلاسي الأول امبراطور إثيوبيا والبابا كيرلس السادس (1959 – 1971) البطريرك 116 بافتتاح أضخم كاتدرائية في الشرق الأوسط وذلك يوم الثلاثاء 25 يونيه 1968.
في هذا اليوم اتجهت أنظار العالم كله نحو القاهرة حيث كان يجتمع رؤساء كنائس العالم لمشاركة الكنيسة القبطية في هذه المناسبة الجليلة، ومن خلفهم جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقرؤة لتذيع وتنشر – في أنحاء العالم – أخبار هذا الحدث الفريد.
واليوم في تذكار مرور 57 عامًا على هذا الحدث التاريخي والخالد والمُبارك بالحقيقة يطيب لي أن أسجل كلمة في هذه الذكرى الطيبة التي يعتز بها كل مصرى على أرض مصر.
للتاريخ نسجل أنه في عام 1967 أعلنت البطريركية عن مسابقة عامة بين المهندسين لتقديم أفضل مشروع للكاتدرائية المرقسية الجديدة بالعباسية، وتشكلت لجنة لاختيار أفضل المشروعات وهو المشروع الذي تقدم به الدكتور عوض كامل فهمي، عميد كلية الفنون الجميلة العليا، وشقيقه المهندس سليم كامل فهمي.
وفي أغسطس 1967 تم البدء في حفر الأساسات بمعرفة الشركة التي وقع عليها الاختيار لتقوم بهذا العمل الضخم وهي شركة النيل العامة للخرسانة المسلحة “سيبكو”، والتي تمكنت من اتمام العمل الجليل في نحو عشرة أشهر!! بعد أن جندت نخبة كبيرة من المهندسين التنفيذيين، 700 عامل فني، 300 صانع، 1000 عامل، وبتوجيه مباشر من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر تمت جميع أعمال الشركة بتنفيذ ذاتي بنحو 85%.
ومن هذه الإنجازات: أعمال حفر أتربة قدرها نحو 17 ألف متر مكعب، أعمال خرسانة مسلحة نحو 12 ألف متر مكعب، أعمال بناء قدرها 150 متر مكعب.
ولتنفيذ هذا العمل استخدمت الشركة 1300 طن حديد، 2400 طن أسمنت، ثلاثة أرباع مليون طوب أحمر، وبلغت التكاليف المبدئية حتى 25 يونيو 1968 نحو 350 ألف جنيه مصرى، وقد أقيمت الكاتدرائية على مساحة 6200 متر مربع.
يوجد بالكاتدرائية مدفن خاص بالقديس مرقس – كاروز الديار المصرية –والذي عادت رفاته من كاتدرائية سان ماركو بفينيسيا بإيطاليا حيث تسلمها وفدًا بابويًا برئاسة الأنبا مرقس مطران أبوتيج من البابا بولس السادس – بابا الفاتيكان – فى 22 يونيه 1968 في ذكرى مرور 19 قرنًا على استشهاد القديس مرقس بشوارع مدينة الإسكندرية. وهذا المدفن من الجرانيت الأحمر مربع الشكل طول ضلعه 170 سنتيمتر، أما ارتفاعه فيصل إلى المتر.
ويوجد بالكاتدرائية قاعة للاحتفالات – تقع أسفل الكاتدرائية – مساحتها تبلغ 1440 مترًا مربعًا، وتسع لنحو 2000 مدعو.
أما الكاتدرائية الكبرى فبها تسعة أبواب وتبلغ مساحتها 2500 متر مربع، وارتفاعها نحو 25 مترًا، وتسع لعدد 8000 شخص.
مساحة قدس أقداس الكاتدرائية (الذى يُطلق عليه اسم الهيكل) نحو 126 مترًا مربعًا. يعلو الهيكل قبة كبيرة ارتفاعها نحو 55 مترًا.
وكانت اللجنة الاستشارية العليا تضم نخبة من المهندسين وأساتذة الجامعات المصرية وهم: م. إبراهيم نجيب، م. يوسف سعد، د. وليم سليم حنا (1897 – 1979)، نجيب أستينو، د. ميشيل باخوم(1913 – 1981)، لواء توفيق اسحق عوض.
كما أنه لا يمكن إغفال الدور الهام الذي قام به السيد وزير الإسكان الدكتور حسن مصطفى –بتوجيهات مباشرة من الرئيس جمال عبدالناصر – والسادة رئيس مجلس إدارة الشركة المهندس عدلي أيوب ومدير عام الشركة، والمهندس فتحي أيوب، والمهندس المُقيم بالمشروع جورج عوض الله، والمهندس الأرمني أرشاك معتمديان، كما أن البابا كيرلس كان قد عهد إلى المهندس مفيد الصيفي بأن يكون المهندس المُقيم من قِبل البطريركية للإشراف على العمل.
وهنا يسجل لنا سيادة المستشار فريد الفرعوني (1905 – 1998) – وكيل مجلس ملي الإسكندرية في العصر الذهبي وعضو الوفد البابوي الذي أحضر رفات القديس مرقس من روما، فكتب يقول في كتابه بعنوان “عودة رفات القديس مرقس الإنجيلي إلى مصر” والصادر عام 1996، فوصف لنا المشهد الرائع بمطار القاهرة:
(وصلت الطائرة التي تحمل رفات القديس مرقس إلى مطار القاهرة حوالي الساعة الحادية عشرة مساءً متأخرة خمس ساعات عن الموعد المحدد وكان يحيط بهذه الطائرة خمس طائرات أخرى – خاصة أيضًا – بها وفود من رجال الدين الذين يمثلون الدول الأوروبية ويواصلون رحلتهم إلى القاهرة حول طائرة القديس مرقس. وكان في انتظارها في المطار عشرات الآلاف من المستقبلين على رأسهم قداسة البابا كيرلس السادس والبطريرك مار يعقوب أغناطيوس بطريرك انطاكية وسائر الشرق للسريان الأرثوذكس وكثير من رؤساء الوفود. وكان البعض منهم ينتظر منذ الصباح. وكانت هذه الجموع تحمل الشموع وتهتف بحماس وخشوع قائلة: “بعد مريم أم النور، مرقس الرسول” إشارة إلى ظهور السيدة مريم العذراء بكنيسة الزيتون في شهر إبريل من نفس العام.
وكنا قد أعددنا للنزول من الطائرة فى موكب من الآباء القسوس والشمامسة بملابسهم الكنسية. ولكن عندما توقفت الطائرة أشتد الزحام والحماس. فصعد قداسة البابا على السلم وسط هتاف الجماهير وتسلم رفات شفيعنا العظيم وحملها على كتفه. فلما رأته الجموع زاد حماسها وبلغت ذروتها حتى زرفت الدموع من شدة التأثر. واشتد الزحام، أصبح من المتعذر السير في الموكب المُعد إذ كان الجميع يريدون التبرك بهذه الرفات المقدسة. فأفسح الطريق لقداسة البابا بكل مشقة حتى سيارته وهو حامل رفات القديس على كتفه.
وكنت بجوار الكاردينال “دوفال” وهو يشاهد هذا المنظر المؤثر، وكان واقفًا على سلم الطائرة متأهب للنزول. فأعربت له عن أسفنا لعدم إمكان سير الموكب، فأجابني قائلًا: “إن هذا الإيمان المتدفق وهذا الحماس الرائع لمنظر بديع لا مثيل له ودليل على الحيوية. فليُمجد اسم الله”).
في مثل هذا اليوم وفي تمام الساعة التاسعة صباحًا حضر إلى السرادق الكبير الذي أُقيم بجوار الكاتدرائية الجديدة الرئيس جمال عبدالناصر وفي صحبته الأمبراطور هيلاسلاسي والسيد حسين الشافعي، نائب رئيس الجمهورية، والسيد أنور السادات، رئيس مجلس الأمة، والسيد عبد الخالق حسونة، سكرتير عام جامعة الدول العربية، وكان في استقبالهم قداسة البابا كيرلس السادس وأعضاء المجمع المقدس للكنيسة القبطية وضيوف قداسة البابا كيرلس من أنحاء العالم من ممثلي كنائس العالم من نيوزيلندا والهند جنوبًا إلى الدنمارك والهند شمالًا ومن اليابان والفلبين والاتحاد السوفيتى شرقًا إلى كندا وأمريكا غربًا.
وجلس الرئيس فى مكانه بالصدارة وإلى يساره البابا كيرلس السادس وعن يمينه جلالة الأمبراطور هيلاسلاسي، ثم رؤساء الوفود المشاركة. وفي جانب المنصة جلس أعضاء الوفود ورؤساء الكنائس ومندوب فخامة شيخ الأزهر وتلميذ البابا كيرلس السادس الشماس روفائيل صبحي (حاليًا الراهب القمص رافائيل آفا مينا) وفي الجانب الآخر من المنصة جلس رجال السلك الدبلوماسى وكبار الزوار.
قام بتقديم المتكلمين الأنبا صموئيل (1962 – 1981) أسقف الخدمات العامة والاجتماعية. ففي الكلمة التي ألقاها سكرتير المجمع المقدس – نيابة عن البابا كيرلس السادس – جاء فيها: (نشكر الله على هذه النعمة العظيمة إذ جعلنا أهلًا بأن نُحيي هذه الذكرى المباركة التي تشهد بعمل الله ومحبته وأمانته على مر الأجيال. هذا التراث الروحي والحضاري الذي ازدهر في هذه البلاد المباركة بمجئ قديسنا مار مرقس اليها منذ ألف وتسعمائة عام، قدمه أبناء مصر وأخوانهم في أفريقيا أولًا ثم في أنحاء العالم ليشاركوهم في نعم الله، وأصبح جزءًا من التراث الحضاري العالمي، ويسرني أن أذكر بالفخر والإعجاب في هذه المناسبة ما تفضل به السيد الرئيس جمال عبدالناصر من إرساء حجر أساس هذه الكاتدرائية خلال أعياد العام 13 للثورة المجيدة في 24 يوليو 1965 ومن المساهمة القيمة التي قدمها سيادته في إقامتها تعبيرًا عن سماحته وكريم مشاعره ..).
وكان قداسة البابا بولس السادس – بابا الفاتيكان – في كلمته للوفد القبطي الذي استقبله بروما لتسلم جزء من رفات القديس مرقس والعودة به إلى أرض مصر، قال: (.. إن المناسبة الخاصة التي أتت بكم اليوم إلى هذه المدينة هي الافتتاح الرسمي الوشيك الحدوث في القاهرة للكاتدرائية الجديدة المكرسة على اسم القديس مرقس. إننا نعلم أن هذا الانجاز هو حصيلة سخاء مؤمنيكم وبتعضيد سلطات دولتكم وبذلك فإن حكومتكم على مكانة ودور المسيحيين المهم، وعلى الأخص مسيحيي الكنيسة القبطية، الذى يقومون به في حياة مصر الحديثة ..).
ثم ألقى البطريرك الأنطاكي مار أغناطيوس يعقوب الثالث كلمة رائعة عن مكانة الكنيسة القبطية في العالم، ومما جاء فيها: (.. وقد تبوأ كرسيها المرقسي بطاركة عظام، تميزوا بالتقوى وأصالة الرأي، وحازوا مفاتيح الحكمة وفصل الخطاب وتمتعوا بنفوذ لا يجارى. وكان هذا الكرسى المقدس السباق إلى اتخاذ لقب “البابا” لبطاركته ..). ثم وقف الكاردينال “دوفال” –كاردينال الجزائر– نائبًا
عن بابا روما وقال: (.. وفي هذه المناسبة الجليلة –مناسبة تدشين كاتدرائية القديس مرقس – تحمل إلينا الدعوة نفسها. فإننا نسمع صوتًا يرتفع من هذا البناء الحجري الذي هو بيت الله وبيت الناس، وهذا الصوت يهيب بنا أن نبني للناس مجتمعًا يكون رمزًا وصورة مسبقة لمجتمع السماء، دستوره الوحيد الأخوة الجامعة المرتكزة على مجد الله تعالى).
وفى نهاية الكلمات العديدة التى أُلقيت نهض البابا ومعه الرئيس والإمبراطور يتبعهم رؤساء الوفود وكبار الزوار إلى الكاتدرائية حيث تقدم البابا والرئيس والإمبراطور فأزاحوا الستار عن اللوحة التذكارية. ثم أنصرف الرئيس والإمبراطور وعاد البابا كيرلس إلى قلايته البسيطة بالمقر البابوي بالأزبكية محدثًا بكم صنع الله معه من عظائم في ذلك اليوم العظيم.
كما قام قداسته – بمناسبة تلك المناسبة الخالدة – بتكليف الأستاذ بديع عبدالملك (1908 – 1979) خبير رسم الخط والنقش الفرعوني بالمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية وأحد مؤسسي جمعية مارمينا للدراسات القبطية بالإسكندرية التي تأسست فى نوفمبر 1945، بإعداد لوحة تذكارية تحمل أسماء الآباء البطاركة الخمسين الأوائل فوق المقبرة التي تحمل رفاتهم بالكنيسة المرقسية الكبرى بالإسكندرية.
وفعلًا تم هذا العمل الضخم في صورة رائعة تليق بمكانة الكنيسة القبطية، حيث قامت الوفود المُشاركة فى الاحتفال بزيارة كنيسة الإسكندرية وزيارة مدفن الآباء البطاركة بها.
كما أنه في لفته طيبة من هيئة البريد المصرية أصدرت فى هذه المناسبة التاريخية طابعًا بريديًا فئة 80 مليمًا (خاص بالبريد الجوي) يحمل رسم الكاتدرائية وبجوارها رسم القديس مرقس.
وفي هذه الذكرى الطيبة نطلب من أجل أن تحل بركة الله على الكنيسة ويغدق بخيراته على ربوع مصر ونحيا فى سلام واستقرار.
05xygc