قابلت زوربا (3).. الضيافة في أثينا.. المدينة التي لايوجد بها شعور "الغربة"
02.07.2025 09:48
اهم اخبار العالم World News
الدستور
قابلت زوربا (3).. الضيافة في أثينا.. المدينة التي لايوجد بها شعور
حجم الخط
الدستور

لم أشعر يومًا بالغُربة في أثينا، منذ الرحلة الأولى، ومنذ اليوم الأول، شعرت بألفة، وبهدوء من عاد إلى مكان يألفه ويعرفه، وربما كان هدوءًا أكثر مما ينبغى، لا يتناسب مع طبيعة الرحلات الممتلئة بالشغف والاكتشاف.. 

تعلمت في اليونان، أن تتناول الحياة ببطء، وأن العالم لن ينتهي إذا أجلت خطة من أجل قهوة وقت الغروب مع صديق، وأن الجلوس على كرسي خشبي مطلي باللون الأزرق على بحر إيجة قد يكون أمتع من جولات في أعظم مدن أوروبا، وأن الحياة هناك ببساطتها تضعك على طريق السعادة.. بدون خطط، وبدون جدول أعمال، وبدون اكتشافات رهيبة.

قال نيكوس كازانتزاكيس، في رواية زوربا اليوناني: "شعرتُ مجددًا بمدى بساطة ووفرة السعادة: كأس نبيذ، كستناء مشوية، على قطع جمر صغيرة بائسة، صوت البحر.. لا شيء آخر".

وعن الحياة أيضًا أعطتني اليونان وزوربا دروسًا: السعادة الحقيقية، ليس ألا يكون لديك طموح، أن تعمل بجهدٍ واجتهاد، وكأنك تملك كل الطموحات، وتعيش بعيدًا عن الناس، لا تحتاج إليهم، ومع ذلك تحبهم، أن يكون لديك نجومٌ في السماء، الأرض عن يسارك، والبحرعن يمينك، وأن تدرك فجأةً أن الحياة قد حققت معجزتها الأخيرة في قلبك: لقد أصبحت قصةً خيالية". 

ولكن ما الذي يجعل الحياة في اليونان خفيفة وبسيطة إلى هذا الحد؟.. وأين ذهب الإحساس المُظلم بالغربة؟، وهذا الشعور الغريب بالتيه الذي يمكن أن يهاجمك في طرقات المدن التي لاتعرفها..الإجابة وجدتها هناك في كلمة واحدة اسمها "فيلوكسينيا". 

الضيافة.. أسلوب حياة

لا يوجد في العالم من المدن ما يضاهي قدم أثينا، حيث عاش الناس هناك على نحو متواصل لآلاف السنين، ابتكر الأثينيون أول أشكال الديمقراطية، والمسرحيات والفلسفة التي شكلت الحضارة الغربية، والمباني الكلاسيكية التي لا تزال منتشرة في الأكروبوليس، وكما نجت هذه الآثار كلها، كان هناك ناجيًا آخر من قرون ماضية، ألا وهو مفهوم الفيلوكسينيا اليوناني.. 

"الفلوكسينيا" كلمة يونانية ليس لها ترجمة، حتى اليونانيون أنفسهم يجدون صعوبة في الاتفاق على تعريف واحد لها، فهي تصف مجموعة معقدة من القيم، والتي تحظى جميعها باحترام كبير في الثقافة اليونانية، ولا يمكن ترجمتها بدقة إلى اللغة الإنجليزية، ولكنها ضمن القيم الأساسية التي يعيش بها اليونانيون، مما يجعلهم "يبرزون" عن بقية العالم فيما يتعلق بثقافة "الضيافة".. فمن الممكن اعتباره مصطلحًا يترجم مباشرة إلى "حب الغرباء"، ولكن السكان المحليين يعرفونه أكثر على أنه الدفء الذي يجعل الأجانب يشعرون بالترحيب فور وصولهم.. فأصحبت أثينا هي المدينة التي ليست فقط ترحب بالغرباء.. بل تجعلهم يغادرن كأصدقاء.. بإمكاني الاعتراف إنني عرفت وعايشت "الفلوكيسينا" قبل أن أفهم معناها.

على عكس أغلب الثقافات الغربية، لا تحتاج إلى دعوة لزيارة صديق أو فرد من العائلة اليونانيين في منزله، فالمنازل اليونانية مفتوحة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع وتقدم أقصى درجات الضيافة، وبمجرد أن تطأ قدمك الباب، ستتم دعوتك للجلوس وتقديم شيء لتأكله وتشربه، بغض النظر عن الوقت، وإذا تمت دعوتك لتناول العشاء، فتأكد من أنك ستذهب وأنت تشعر بالجوع، ومن المرجح أن يُعرض عليك أربعة أطباق مختلفة على الأقل، إن لم يكن أكثر!

في عشائي الأول في أثينا في نوفمبر 2022، طلبت وجبة "سولافكي"، وعندم علم النادل إنها زيارتي الأولى ووجبتي الأولى في المدينة، أعطاني "بقلاوة" كنوع من الضيافة.

 في أثينا دومًا كنت أحصل على أكثر مما أطلب أو مما أدفع ثمنه، إذا طلبت "سندوتش" أعطوني "بطاطس مقلية" مجانًا، وإذا طلبت "وجبة" أعطوني "قطعة حلوى مجانا، وإذا طلبت قهوة، أعطوني مخبوزات مجانًا.. لماذا يعاملوني هكذا.. هل أبدو فقيرة غير قادرة على دفع ثمن وجبتي؟ هل أبدو كمتشردة أحتاج إلى مساعدة؟ 

القبارصة أيضأ يشتركون في نفس الصفة، فكان المقهى الذي بجوار فندقي هو مكاني المفضل لقهوتي الصباحية، والتي في أغلب الأوقات كانت مجانية، وعندما أصر على دفع الحساب يقول الرجل اللطيف: هكذا نريد أن نستقبلك في جزيرتنا!

في لارنكا وفي أثينا، رحبوًا بي كسائحة فريدة، ابتسامة كبيرة، ودفء، وود.. يجعل مسألة عودتي إلى أثينا أو لارنكا هي مسألة وقت لألتقي مرة أخرى بهؤلاء البشر الطيبين.

بعد عدة رحلات، فهمت أن الضيافة اليونانية لم تكن موجهة لي حصريًا، هي موجودة هناك من الأزل، وستظل هكذا للأبد، هي في حمضهم النووي، فهي تأتي عميقًا من قلب كل شخص يوناني، وترجع إلى طريقة الحياة التي مارسها الإغريق قديمًا، وربما هي ضمن الأسباب الرئيسية وراء جذب ملايين الزوار إلى اليونان كل عام. 

الضيافة في الأدب الملحمي: فلسفة زيوس

بشكل أو بآخر، هناك الكثير من المؤشرات أن اليونانيين الحاليين يشبهون كثيرًا أسلافهم، لاتوجد دراسات حاسمة، لكن الطباع والجينات والأفكار، انتقلت بسلاسة عبر القرون، ونجت في الحفاظ على هويتها رغم الاحتلال، والفوضى في بعض الأوقات.

عرف الإغريق القدامى الضيافة، بل وقدسوها، منذ زمن الآلهة القديمة، هناك الإله "زيوس" وفلسفته، ذلك الإله الذي ولد في جزيرة "كريت"، وبشكل ما أصبح "زيوس" هو إله المسافرين، وحاميهم.

أما الأسطورة حول "فلوكسينيا" فجاءت عن طريق قصة "زيوس وابنه هيرميس" اللذين نزلا إلى الأرض متنكرين ليشاهدا مدى حسن ضيافة البشر، فارتدا ملابس رثة وتجولا في الريف بحثًا عن ملجأ وطعام، لكنهما كانا يُطردان مرارًا وتكرارًا عند أبواب المنازل الغنية.

وفي النهاية وصلا إلى مسكن متواضع لزوجين من الفلاحين يُدعيان فليمون وبوكيس، فرحبا بهما وشاركاهما وجبتهما البسيطة والنبيذ، وبعد إعادة ملء أكواب الضيوف عدة مرات من إبريق كان يعتقد أنه نصف ممتلئ، اكتشف "فليمون" أن الإبريق ممتلئ باستمرار، ثم أدرك أن ضيوفه كانوا من جبل الأوليمب.

في هذه المرحلة عرض "فليمون" قتل الإوزة الوحيدة التي كانا يملكانها لإطعامهما. وتأثر زيوس بهذه البادرة، فحوّل كوخهما الصغير إلى معبد وجعلهما حراسًا له، كما منحهما أمنيتهما النهائية ــ أن يموتا معًا في نفس اليوم، وبعد سنوات عديدة، في اللحظة التي توفيا فيها، تحولا إلى شجرتين جميلتين تقفان على جانبي باب المعبد.

فأصبح التقليد عند الإغريق هو إنه عند وصول الغريب إلى مدينة جديدة يُرحب به في أي منزل ويعامل مثل الملوك، حيث سيتم توفير له أرقى الملابس، ووجبة رائعة، ومحادثة رائعة، ففي العصور القديمة، لم يكن الغرباء سائحين، بل كانوا رسلًا أو منفيين أو أشخاصًا يمرون في طريقهم إلى وجهة بعيدة. 

فربما حب زينوس أو الرهبة منه جعلت اليونانيين كرماء بهذا الشكل، فالغريب الذي يتدحرج على ذلك الجبل الترابي قد يكون إلهًا متنكرًا، لذا فمن الأفضل أن تعامله معاملة حسنة، فبات يُنظر إلى معاملة الغريب بشكل سيئ على أنها خطيئة، فأصبح التقليد هو حسن الضيافة دائمًا بغض النظر عن وضع الشخص أو فئته أو ثروته. 

حتى كلمة فندق فهي في اليونانية "xenodoxeio"، والتي تنبع من المعنى اليوناني القديم لـ "قبول الغرباء"، في اللغة اليونانية الحديثة، هناك العديد من الكلمات التي تستمد جذورها من عبارة "xeno"، والتي تُترجم إلى الغريب. 

"الصديق الغريب" هو أسلوب حياة رعاة اليونانيون ومارسوه لقرون من الزمان، فأصبحت"فيلوكسينيا" هي كل المثل والقيم التي يجب أن تعامل بها الغريب، فعندما يضل شخص غريب طريقه وبدلًا من تزويده بتوجيهات مربكة حول كيفية الوصول إلى وجهته، فإنك تساعده في الرحلة بينما ترشده إلى المكان الذي يرغب فيه.

لم تخلوا زيارتي من هذه التجربة الإغريقية، لم أتذكر كم مرة سألت اليونانيون عن شيء.. الطريف إنهم لا يقولوا أبدا:"لانعرف"، فإما وجهوني أو يبحثوا معي أو يذهبوا معي.. لكن لا يقولوا "لانعرف"!

تجربتي، فهمت أنها كانت محل دراسة، فمنذ أقدم دراسة للقرية اليونانية التي أجرتها إرنستين فريدل، تم تقديم الفيلوكسينيا كتوقع مهم في التفاعل الاجتماعي بين السكان المحليين والغرباء، وأثبتتها لاحقًا الدراسات الأخرى، والكثير من المقالات المنشورة على مواقع السياحة ومدونات السفر تناولت حسن الضيافة اليونانية، حتى الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، قال في تصريحاته عام 2016  في مركز ستافروس نياركوس الثقافي في أثينا، إنه كان ينتظر "الضيافة الأسطورية" للشعب اليوناني خلال رحلته الدولية الأخيرة كرئيس.

الضيافة والمهاجرين

في ميدان أومونيا، حيث اعتدت أن أسكن، أردت أن أفهم إلى أي مدى يتم تطبيق مفهوم "الفلوكسينيا"، فهل اصبح تعقيدًا في ضوء زيادة الهجرة إلى اليونان والتحولات السياسية اليمينية؟ 

في أمونيا، التقيت "نادين" الفتاة الكردية السورية التي هربت عبر تركيا إلى اليونان، وقضت أيامًا مع زوجها وابنتها بين الثلوج، حتى وصلت إلى اليونان، وهناك قدمت أوراقها للحصول على اللجوء، حكت لي إنها تخضع لبرنامج تأهيل نفسي عقب المأساة التي حلت بها، ولكنها لم تكن راضية بما يكفي، خاصة مع تأخر قبول أوراقها، وكان السبب واضح: إنها كانت آمنة في تركيا فلماذا جاءت إلى اليونان؟

وعن الاندماج فهمت منها أنه بسبب اللغة والخلفية الثقافية فهي لاتندمج كثيرًا مع اليونانيين، لكنها لا تجد صعوبة في التعامل معهم في الأمور اليومية البسيطة.

ما فهمته أن ثقافة الضيافة للشعب لليوناني، لا تعني بأن يتم فتح أبواب الدولة على مصراعيها للمهاجرين الذين حتى لو يعاني بعضهم من ظروف معيشية صعبة من دولهم، إلا أن كثيرون يأتون من دولًا آمنة نسبيًا وبشكل غير قانوني، وفي بعض الأحيان يسببون الكثير من الفوضى في اليونان الذي لديه أزمات اقتصادية بالفعل، وهو أمر رأيته منطقيًا.

العلاقة مع المهاجرين في اليونان مُعقدة بعض الشيْ، فمن خلال محادثاتي مع اليونانيين – خاصة صغار السن- شعرت أنهم يتقبلون المهاجرين ويتعاطفون معهم، فقال لي "يانيس" الشاب الذي يدرس في الجامعة، إنه يعارض معاملة المهاجرين معاملة سيئة، وأكد أن هؤلاء جاءا إلى اليونان ليحتموا ويشعروا بالأمان، فعلينا أن نستوعبهم فهذه هي الإنسانية، مشيراُ إلى أن اليونان يحتاج للعمالة.

بينما رأى رجل يوناني آخر، رأى أن تزايد أعداد المهاجرين من الشرق الأوسط وباكستان، وبنجلاديش يؤثرون على الهوية اليونانية لبلده الجميل، ويغير في شكل الحياة اليومية، مشيرًا إلى أنه توجد مناطق أصبحت مثل الجيتو للمهاجرين، وأصبح اليونانيون يتجنبوها.

ربما تجربتي كانت مختلفة إلى درجة يصعب الحكم من خلالها، لكن ما رأيته أن الأغلبية عاملوني معاملة لطيفة.. في يوم رفضت جهاز التذاكر الإلكتروني في المترو بطاقتي، فظهر رجل من اللامكان، وأعطاني تذكرة، وقال لي: إنها تعمل.. ورحل بسرعة، وأنا مذهولة، ولم يمنحني حتى وقتأ أن أشكره.. هكذا رأيت ضيافة اليونانيين.

 

 

اترك تعليقا
تعليقات
Comments not found for this news.